ما أن يهل هلال شهر رمضان المبارك حتى تعود العباءة فتحتل صدارة خزانة النساء في العالم العربي ليرتدينها لدى حضورهن دعوات الإفطار والسحور واستقبال الضيوف في المنازل، بل وحتى في المناسبات الرسمية والأعراس بالنسبة للقفطان المغربي، مثلا، وفي حين تتراجع مكانة الثياب العادية أيام الشهر الفضيل، وتحديداً خارج إطار العمل، يتجدد الاهتمام بهذا الزي التراثي الذي لم تستطع العصرنة إلغاءه، وان كان حضوره قد فقد وهجه في بعض المراحل.
فحاجة النساء إلى الشعور بالراحة للتخلص من الإرهاق اليومي المتواصل والتحرك بحشمة ومن دون قيود لتأمين مستلزمات عائلتها الرمضانية وواجبات الضيافة، أعادت كلا منهن إلى قفطان المغرب أو ثوب السودان أو جلابية مصر أو عباءة أهل الجزيرة العربية، وان بقي يستقطب لبنان خطوط كل هذه الحضارات التي تتسلل إلى تصاميم تزهو بها اللبنانيات في أمسيات الشهر الفضيل.
ومكانة العباءة شجعت تلفزيون «ام بي سي» على إطلاق المسابقة الأولى من نوعها تحت عنوان «أروع عباية» ضمن برنامج «صباح الخير يا عرب» لتصميم العباءات السوداء.
وتهدف المسابقة إلى دعم الإبداع في تصميم العباءة في العالم العربي، وتسليط الضوء على المواهب البارزة على صعيد تصميم هذه القطعة في السوق السعودي، وبقية الدول العربية، وكان شرط دخول هذه المسابقة، تقديم تصاميم جديدة للعباءة بلونها الأسود الكلاسيكي، تستوحي خطوطها من اهتمامات المرأة العربية، باعتبار أنها أحد أهم ما يعبر عن تقاليد مجتمعها وثقافتها.
وجاء التركيز على اللون الأسود كونه رمزاً للعباءة العربية على اختلاف أنواعها وتصاميمها، رغم دخول ألوان أخرى عليها وإضافات من حيث التطريزات تماشيا مع تغير العصر وفي محاولة لمخاطبة جيل شاب يريد أن يعيش الحاضر والمستقبل لا الماضي.
وتجدر الإشارة على أنها حتى بجزئها التراثي الشرقي المعطر بالعود والمسك، دخلت صناعة الموضة الغربية وأثرت على مصمميها الشباب المنفتحين على ثقافات الغير، بما فيها العالم الإسلامي، وليس أدل على ذلك العرض الذي أقيم في باريس مؤخرا وشاركت فيه أسماء عالمية غربية كبيرة من أمثال جون غاليانو، ترجمت العباءة بأسلوبها مع المحافظة على تراثها وشخصيتها.
وهكذا بدأت تتوج عروض الأزياء العالمية مرات بشكل علني واضح المعالم، ومرات باستقائهم تفاصيل منها يضخونها في فساتين طويلة بل وحتى معاطف بقلنسوات وغيرها.
وهذا ما يجعل البعض يقول إن مجد العباءة عاد بعد استعانة بيوت الأزياء العالمية بخطوطها لاستلهام تصاميم جديدة لا سيما في أزياء السهرة، مما حررها من حدودها الضيقة، بينما يرى البعض الآخر أن انفتاح عروض الأزياء العربية على العواصم العالمية ونقل المصممين العرب هذه الخطوط الطالعة من تراثهم وحضارتهم هما السبب المباشر لتحويل العباءة من زيِّ محلي كان يقتصر ارتداؤه على بيئات معينة إلى صيحة حديثة من صيحات الموضة المتجددة.
ولعل السبب الأكثر منطقية يجمع ما بين الانفتاح العالمي على كنوز الشرق وانفتاح المصممين العرب على الدول الغربية، لكن الأهم هو انفتاح العالم بأجمع على العالم الإسلامي والعربي ككل، كونه قوة مؤثرة، سياسيا واقتصاديا.
هذا عدا أن العباءة تساعد المرأة على التوفيق ما بين إطلالتها العصرية في المناسبات الاجتماعية ورغبتها في أناقة غنية ومحتشمة تزيد الحاجة إليها في المناسبات الاجتماعية والدينية، وما تتطلبه من حضور دعوات الإفطار والسحور التي تترافق مع عبارة «الرجاء ارتداء العباءة الشرقية».
وهكذا تبدأ «الحروب اللطيفة» بين الباحثات عن التميز في أمسيات الشهر الفضيل، لا سيما أن هذا الزي يمنح لابسته فرصة لإطلالة مختلفة عن الأزياء الكلاسيكية وأكثر أصالة كونها تستمد قيمتها وجماليتها من التراث العربي الذي يعكس انتماء المرأة إلى بيئة حضارية تعطيها هويتها في خضم العولمة التي تلغي الخصوصية.
وذلك إضافة إلى أن العباءة في مخيلات المصممين تفتح عوالم يمكن التحكم في جماليتها بشكل لا يتعارض مع الأناقة ومفهوم الحداثة.
كما أن المصممين العالميين لم يعد باستطاعتهم تجاهلها إذا كانوا حريصين على إرضاء زبوناتهم في الأسواق العربية المربحة، التي تحتل حيزاً مهماً من حجم أعمالهم، لذا لم تعد تغيب «اللمسة الشرقية» لأزياء فضفاضة من خلال القصة أو التطريز أو الفكرة العامة للثوب، الذي قد يأتي على شكل قفطان أو جلابية أو مزيج بين الساري الهندي والمخمل الحريري الذي يتسع لينسدل بأناقة شرقية النوع واللون.
ويبقى ظهور الشهيرات وسيدات المجتمع بعباءات متجددة في الاحتفالات والمهرجانات وأحيانا الزيارات الرسمية عاملاً جاذباً لمتتبعات الموضة، ساهم في عودة المرحلة الذهبية للعباءة واعتبار وجودها في خزانة كل امرأة ضرورة لا بد منها.
ومعلوم أن المصممين العرب وجدوا في العباءة مساحة واسعة من الإبداع المثمر في مختلف الدول العربية من لبنان إلى مصر إلى الأردن إلى المغرب.
أما في الخليج العربي، فتظهر جولة ميدانية في أي من المجمعات التراثية أن العباءة التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من أسلوب الحياة اليومي للمرأة، تستطيع أن تحتل الواجهات إلى جانب الأزياء التي تحمل توقيع أهم مصممي الماركات العالمية بعد أن أصبحت صناعة فنية تغرف من بيئتها في إطار مبتكر، لأن أدواتها غنية في الأصل وعريقة، ما يسمح للمصممين بإبهار العين من خلال أنواع عديدة للعباءات التي تتنوع هويتها بين بداوة وحضارة وصحراء، مع جرأة في اللون والشك والتطريز واستخدام الأحجار الكريمة الغالية.
وأهمية العباءة أنها لم تكتف بمخزونها التراثي لإرساء أسس أناقتها، لذا أخرجها المصممون من شرق أوسطيتها واستعانوا لذلك بالفنون الشعبية اليدوية من أفغانستان وباكستان والهند وأحيانا العمق الأفريقي وبأحدث التقنيات العالمية للخياطة وتطويع الأقمشة بحيث تنسجم مع مفاهيم الأناقة العصرية.
وهكذا لا يزال تصميم العباءات يشهد «مغامرات» لرفع منسوب الأناقة والمنافسة من خلال مزج المعطيات المتوفرة أصلا في بيئة كل بلد مع بساطة التصاميم الغربية.
كل هذا جعل العباءة لا تقتصر على السيدات اللواتي بلغن منتصف العمر أو تجاوزنه، ويحتجن إلى إخفاء عيوب أجسامهن وامتلائها، وإنما باتت تغوي الشابات أيضا لما تتميز به من أناقة عصرية من خلال تصاميم تنبض بالحركة وتعكس العلاقة بالزي الشرقي.
ولعل التنويع في تصاميم العباءات وخطوطها وأقمشتها له الفضل في استقطاب المزيد من النساء لارتدائها.
فقد غزتها الألوان واستخدمت فيها أقمشة الحرير والشيفون والاورغنزا والقطن والكروشيه والساتان والقماش المجعد والكتان وحتى الجينز وأحياناً الفراء، وطرزت بنقوش من الخيوط والخرز وأحجار الشوارفسكي وأضيف إليها أحيانا قطع جلدية ومن الشامواه والحرير.
وتبرز براعة مصممي العباءات في قدرتهم، من خلال التلاعب بالتصميم، على إعطاء الأولوية لإخفاء بعض العيوب، مع منح المرأة شعورا بالراحة والتميز في الوقت ذاته.
ولا تقتصر الرغبة في ارتداء العباءة على النساء العربيات، ففي اليمن أو المغرب نجد الكثيرات من النساء الأجنبيات يتهادين بالعباءات.
وتقول سيدة فرنسية تعمل في إحدى منظمات الأمم المتحدة في العاصمة اليمنية صنعاء: «يريحني ارتداء العباءة، فلا أشعر أن الأنظار تستهدفني لاختلافي عن النساء في المدينة، كما أن لهذا الزيّ جماله الذي لا يقاوم. حتى أني احرص على شراء عباءات حريرية لأهديها إلى قريباتي وصديقاتي عندما أعود إلى وطني في الإجازات».
وتقول سيلفي المتزوجة من لبناني والمقيمة في المغرب إنها «شغوفة بالعباءة المغربية التي تشعرها عندما ترتديها أنها أميرة من أميرات ألف ليلة وليلة».
ولأن حلول رمضان المبارك يصادف في الصيف هذا العام فقد حرصت المتاجر المتخصصة في بيع العباءات على اختيارها من القماش الصيفي الذي يخفف وطأة الحر، وبقصات ناعمة لا تتطلب كمية كبيرة من القماش أو ثقيلة بسبب التطريز بالحجارة الكريمة، لذا تروج أكثر العباءات المطرزة بخيوط ناعمة، أو تلك الحريرية بألوان الباستيل التي تمنح برودة وإنعاشا لمن تلبسها.
يقول ماهر، وهو صاحب محل للعباءات في بيروت: «شراء العباءة يشهد إقبالا مع حلول الشهر الفضيل، لذا نحرص على تأمين الأنواع التي تحتاجها المرأة لمختلف المناسبات، لا سيما أن ارتداءها لا يقتصر على المحجبات، ليشمل شرائح أوسع.
فهناك من ترغب بشراء العباءة اليومية التي تتميز بالبساطة مع قماش منسدل من الكتان ومن دون تعقيدات في الخطوط والقصات مع تطريز بخيوط الحرير وابتعاد عن الشك والإكسسوارات، كما هناك من ترغب بأناقة مبهرة وتجد لدينا ما تريد من خلال تشكيلة تخطف الأنفاس».