آباء وأبناء من كتاب قصاصات الزجاج..
يحكى أن جماعة من القنافذ
كانت تعيش معا فى سفح الجبل ، فلما جاءها الشتاء ببرده المثلوج ، وأخذتها
فى الليل رعشة تناولت منها المفاصل والعظام ، اقترح عليها واحد منها ان
يجتمع شتيتها فى كومة متلاصقه حتى يدفئ بعضها بعضا بحرارة أجسادها ،
لكن
جماعة القنافذ لم يكد يلتصق بعضها ببعض طلبا للدفء ، حتى احس كل منها وخز
الابر الحادة المسنونه التى تغطى أجساد زملائه ، فما هو الا أن افصحت كلها
عن كظيم آلامها وطلبت ان تعود الى مواضعها المتفرقة ، فلذعة البرد أهون من
هذا الوخز الاليم ، وعادت القنافذ فتفرقت كما كانت اول امرها ، لكنها كذلك
عادت فأحست زمهرير الشتاء يهز كيانها هزا عنيفا ،
وكأنما نسيت ازاء
هذا البلاء ما كان من الم الوخز منذ قريب ، فصاح بعضها ببعض ينشد كلها
التلاصق مرة اخرى حتى يعود لها الدفء ، وعاد وخز الابر وانساها الالم
الحاضر الم الماضى ، فضجرت وتفرقت مرة اخرى وهكذا دواليك : اقتراب وابتعاد
واتصال وانفصال ، الى ان قال منهم قائل حكيم : خطؤنا فى المبالغة والاسراف ،
فاذا ابتعدنا أوغلنا فى البعد حتى فقد كل منا دفء اخيه وتعرض للبرد الشديد
، واذا اقتربنا أوغلنا فى القرب حتى وخز كل منا جلد اخيه فأدماه ،
والحكمة
هى فى اختيار الموضع الصواب بين الطرفين بحيث ننجو من الوخز دون ان نفقد
دفء التقارب ما استطعنا اليه سبيلا .
وحكاية القنافذ هذه تقفز الى
ذهنى كلما سمعت بخلاف يدب بين افراد الاسرة الواحدة ، او بين جماعة من
الاصدقاء .
فكأنما اراد الله لنا الا نقع ابدا على هذا الموضع
الصواب فى علاقتنا بعضنا ببعض ، بحيث يبعد كل منا عن شئون الآخرين بعدا
يتيح لهؤلاء الاخرين ان يشعروا بشخصياتهم مستقلة قائمة بذاتها .
وبحيث
لايكون ذلك البعد سببا فى حرماننا من دفء العاطفة التى يستمدها بعضنا من
بعض .